مُدونة الأسرة وسياسات الهوية…خبير القانون الدستوري يشخص الأعطاب
هبة بريس_ الرباط
لاشك أن التعديلات المرتقبة التي قد تطال مدونة الأسرة المغربية، قد خلقت بيئة صحية للنقاش الهادئ على مواقع التواصل الاجتماعي، وفسحت المجال لمحللين وخبراء قانون ومهتمين، للدلو بدلوهم في هذا الموضوع الذي نال نصيبا مفروضا من الاهتمام والعناية المولوية لملك البلاد حفظه الله بصفته أميرا للمؤمنين وكلمته الفصل حين قال : “بصفتي أمير المؤمنين فإنني لن أحل ما حرم الله، ولن أحرم ما أحل الله، لاسيما في المسائل التي تؤطرها نصوص قرآنية قطعية”.
حينها أكد الملك على التعديلات المرتقبة لا تكون خارج إطار مقاصد الشريعة الإسلامية، وخصوصيات المجتمع المغربي، مع اعتماد الاعتدال والاجتهاد المنفتح، والتشاور والحوار، وإشراك جميع المؤسسات والفعاليات المعنية.
تفاعلا مع التعديلات المرتقبة التي قد تطال مدونة الأسرة ككيان مجتمعي مصغر يحظى بأهمية بالغة لدوره الفعال في صناعة الأجيال، خصّ خبير القانون الدستوري الأستاذ المحاضر بكلية العلوم القانونية والسياسية بسطات ” الدكتور حفيظ اليونسي” ( خصّ هبة بريس) بقراءات في الموضوع، اختزلها في خمس مقدمات..
فبعد أن تطرقنا سابقا لثلاثة منها، عنون الأستاذ حفيظ اليونسي مقدمته الرابعة بعنوان طويل عريض مفاده (مدونة الأسرة وسياسات الهوية).
وقال الأستاذ اليونسي إن طبيعة الدولة الحديثة وطريقة اشتغالها كما بيانه أعلاه، تؤكد محوريتها في تدبير مختلف مناحي حياة المجتمع، سواء تعلق الأمر بما هو مادي ذي علاقة بالبعد الاقتصادي والاجتماعي ولسياسي والثقافي، فالجوانب ذات الطبيعة الرمزية تلعب دورا مهما في بناء المتخيل الجمعي للشعوب، وتعطي للدولة شرعية مهمة في العلاقة بوجدان شعوبها.
وأضاف الأستاذ اليونسي أن مسألة الهوية شكلت أحد أهم مداخل دولة ما بعد الاستعمار للتأسيس لشرعيتها وتدبير الاختلاف بين مكونات الشعب الواحد، الأكيد أن تشكل هذه الدولة -للتذكير-لم يأخذ نفس مسار التجربة الغربية، التي في عموم دولها هناك تطابق بين الحدود الجغرافية والأمة ذات اللغة الواحدة والتاريخ المشترك والمذهب الديني المتبع.
وأشار أستاذ القانون الدستوري أن دولة ما بعد الاستقلال في السياق العربي الإسلامي فشلت في صياغة سياسات هوية، إذ لم تقدر على تثمين التنوع وثراء التعدد، بل في مقابل ذلك أدمجته في تدبيرها لعلاقتها مع المجتمع من خلال التخويف بثنائيات: من قبيل الحداثي/ المحافظ و الديني/ العلماني ، وهو تخويف يبرر بالتالي اتخاذ إجراءات وقرارات وصياغة سياسات ذات طابع سلطوي حيث دمقرطة القرار شكلا لكن التحكم في مخرجاته بما يبرر استمرار هذه السلطوية في التدبير ، بل إن بعض هذه الدول استثمرت سلبيا في إذكاء هذا الاختلاف في اتجاه الخلاف بغرض التغطية على طريقة التدبير السلطوي المفضي الى الاستئثار بالقرار العمومي سياسيا وماليا، مشيرا إلى أن هذا الاستغلال في حقيقة الأمر يعبر عن عجز الدولة الحديثة عن توليد دينامية توحيد وتجانس في النسيج الاجتماعي، مما أنتج تفككا في الروابط والبنى التقليدية، وكان له الأثر المباشر على التنمية والعدالة الاجتماعية والمجالية والتوزيع العادل للثروة.
وتابع بالقول: في مقابل ذلك هناك استثمار اليوم في إضعاف قدرة الدولة على انتاج القيم الجامعة، من خلال إثارة النقاش في قضايا ثانوية بالنسبة للغالبية وربما تصعيد قضايا في أجندة السياسة العامة ليست بالأولوية الوطنية بل تماشيا مع ضغط المد العولمي، وهو استثمار يهدف إلى توهين علاقة الدول بشعوبها.
ولفت الأستاذ اليونسي إلى أن الدولة الوطنية تحتاج اليوم إلى خلق حد أدنى من الإجماع أو على الأقل الحد الأدنى من السرديات الكبرى، التي يتعبأ من أجلها وحولها المجتمع والأفراد، ما أسماه أحد الباحثين بالثقافة العليا التي تختزن قيما مركزية وكبرى، هذه الأخيرة يحتل فيها الدين المحرك الرئيسي لبناء ما يسمى بجماعة الوجدان حيث الرموز والتقاليد والتاريخ مصدر مهم لها، بموازاة بناء جماعة المواطنة حيث الحقوق والحريات.
وخلص الأستاذ اليونسي بكل وضوح، إلى أن علمنة مدونة الأسرة في مضمونها ولغتها ومفاهيمها، هو تكريس لإبعاد الاسلام ليكون مصدرا للقيم الجامعة التي ينطلق منها المجتمع لكسب معركة التحرير الثانية للانعتاق من التبعية وبناء دولة الكرامة لمواطنيها، وربما من يدبر اليوم بالنسبة إليه هذا موضوع خارج منطق تفكيره واكراهات الحكم تعتبر الموضوع مجرد ورقة لا بد من تدبيرها بأقل الاضرار الممكنة.
وإلى المقدمة الخامسة والأخيرة: مدونة الاسرة بين حقلين مركزيين: الفقه والقانون.